الخميس، مارس ١٦، ٢٠٠٦

جان جينيه...الثائر اللقيط






"لكل فرد جمالا خاصا به، وأصل هذا الجمال هو الجرح المتفرد، هذا الجرح مختبئ ومكنون داخل كل إنسان"..

كانت هذه هي كلماته التي تعبر عنه بصدق، فهو ملحمة إنسانية، يعيش في هذه الدنيا متخطيا كل الجروح وكل المصاعب التي تواجهه، يبتسم ويعيش يبدع ويعيش ويسرق لكي يأكل ويعيش..إنه "جان جينيه".

للوهلة الأولى تعتقد انه مجرد اسم لفيلسوف أوروبي أو كاتب مغمور بعيد عن الدنيا وما فيها، إلا انك لو تأنيت للحظات وبحثت عما وراء هذا الاسم وهذه الكلمات ستجد "إنسان" بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني ويمكن أن تضيف بعدها كلمة أخرى أكثر تعبيرا عنه وهي "إنسان شفاف".

"جان جينيه" مجرد لقيط جاء إلى الدنيا على غير إرادته كما يقول ومن غير المستبعد أن يكون على غير إرادة أحد غير الله، عاش مشردا في شوارع باريس ولجأ إلى السرقة ليأكل ودخل السجن عقابا على فعلته ولكنه رأى الدنيا من منظار مختلف رآها ملحمة مليئة بالظلم والاستعباد وأيضا مليئة بالحب والجمال.

في سجن الأحداث
ولد عام 1910 ذاق مرارة التشرد في أزقة باريس الخلفية المعتمة وحواريها الضيقة التي لم تكن تتسع لا لأحلامه ولا لأقدامه، ولا للموهومين والموهوبين من أمثاله، فعاش طفولة بائسة فدخل الإصلاحية وهو طفل صغير لأنه سرق الطعام وخرج منها ليدخل السجن ويقضي فيه عدد كبير من سنوات عمره الـ72.

ويبدو أن السجن لعب دورا هاما في حياته فيقول في "يوميات لص" :"اعتقد بأنني منذ كنت صغيرا جدا، دربت نفسي علي امتلاك أحاسيس لا يمكن أن تؤدي بي إلا إلي الكتابة .. إذا كانت الكتابة تعني امتلاك أحاسيس أو مشاعر من القوة بحيث ترسم حياتك.. نعم في سجن الأحداث بدأت الكتابة تستهويني.. وكنت مقتنعا باني لن اخرج من السجن".

وعندما بلغ الخامسة والثلاثين افتقد هذا البريق الذي كان يستمتع به من قبل في السجن فقال:"كنت أحب الظل دائما.. حتى حين كنت صبياً.. فأنني ربما أكون أحببته إلي حد الذهاب من تلقاء نفسي وبكامل إرادتي إلي السجن .. مع ذلك لا استطيع القول باني قد ارتكبت السرقات كي أذهب إلي السجن، فمن المؤكد بأنني قد ارتكبتها كي أكل.."

فرنسي الجنسية ...ولكن...!
فرنسي الجنسية نعم، ولكنه يحب المسلمين والعرب ويرفض الاحتلال بشتى أنواعه، وحبه للعرب دفعه إلى السفر لأول مرة إلى بلاد الشرق وكانت دمشق أولى محطاته وانتقل منها إلى الأردن وفلسطين، ويبدو أن السحر الشرقي كان أقوى من سحر باريس فاستمرت رحلته ستة أشهر بعد أن كان ينوي البقاء أسبوع فقط، تعلم العربية وعشق المأكولات الشرقية ورأى الفدائيين وعاش في بيوتهم وكتب عنهم "العاشق الأسير".

هذا العمل الذي يعبر فيه عن مأساة الشعب الفلسطيني قائلا :"الصفحة البيضاء التي كانت في البداية بيضاء تخترقها الآن من الأعلى للأسفل علامات سوداء صغيرة الحروف، والكلمات، والفواصل، ونقاط التعجب والتي أصبحت بفضلها مقروءة، لكن هناك نفورا أقرب ما يكون للغثيان، ونوعا من الحيرة يجعلني أتردد في الكتابه"

نعم لقد تردد في الكتابة من هول ما رأى من مذابح في صبرا وشاتيلا من هول ما رأت عينه من الهوان والظلم لأصحاب الحق فتردد في الكتابة ولكن في النهاية قرر أن يكتب لأنه من غير الطبيعي أن يبقى صامتا مثل الكثيرين.

ولم يكن هذا العمل هو الأخير عن الفدائيين بل كتب عنهم مرة أخرى"أربع ساعات في شاتيلا"هذا بعد زيارته الثانية للشرق عام1983 كتب لأنه وصل بعد يومين فقط من مذبحة صابرا وشاتيلا فقرر أن يخلد زيارته بهذا العمل الرائع، ليعلن بذلك عشقه لهذه الأرض وحبه لهؤلاء العرب مسلوبي الحق.

الجزائر...المغرب...وابن بالتبني
لم تكن فلسطين هي الوحيدة التي شغلت تفكيره وعقله ولكن الجزائر سبقتها في ذلك فكان "جينيه" من أقوى المدافعين عن حق الشعب الجزائري وعن ضرورة جلاء الفرنسيين عن أراضيهم،فكتب في بداية ستينيات القرن الماضي مسرحية "الحواجز"أو البرافانات عن احتلال فرنسا للجزائر، ولم تعرض هذه المسرحية على المسرح الفرنسي إلا عام 1966 بعد مرور أربع سنوات على استقلال الجزائر، وسط معارضة عنيفة لها من اليمين الفرنسي المتطرف.
أما المغرب فلها مساحة خاصة في قلبه ووجدانه لأنه عاش بها فترة من فترات حياته عاش فيها مع أسرة مغربية أحبها كثيرا لدرجة انه تبني احد أطفالها، وأثرت المغرب بشكل واضح في وجدان "جينيه" حتى انه أوصى بدفنه في المغرب بعد موته وبالتحديد في مقابر المسلمين العرب.

المبدع ...القديس ...اللص
احتمل "جينيه" العديد من التصنيفات طوال حياته أطلقوا عليه اللص لأنه سرق عدة مرات أما الفيلسوف الفرنسي "سارتر" فكان يناديه بـ"القديس" لأنه يرى في حياته مآسي وألم تستحق التقديس، فيما يراه البعض مبدع على أعلى مستوى يستحق التحية على كل المستويات فقد انفعل مع مجريات الأمور وكتب عنها فلم يكن منعزلا عن العالم بل انغمس في قضاياه كلها وكانت أعماله بمثابة تحليل للواقع العالمي السياسي والاجتماعي.

فجاءت أعماله معبرة عما يدور في الدنيا فقدم 6 أعمال مسرحية هي "السود" ويحكي فيها عن الزنوج ومشكلتهم العنصرية،"العاشق الأسير" عن فلسطين، و"الحواجز" أو "البرافانات " عن الجزائر و"حرس الموت" و "الخادمات" و أخيرا "الشرفة" ويحكي فيها عن الأقنعة التي يتخفى فيها الحكام في إدارة البلاد الأقنعة السياسية والدينية الحكام والفساد الأخلاقي للحكم الذي يدار من داخل بيت كل من فيه يلبسون الأقنعة وينطلقون.

"جان جينيه" بدأ حياته "لقيطا" لا يعرف من أبيه ولا أمه ولكنه تركها برصيد كبير من "اللقطات" التي تستحق المشاهدة ...فقد رحل عنا في أبريل من عام 1986 ودفن في مقابر المسلمين في المغرب العربي كما تمنى، وتخلص من السجن والقهر والظلم.. والأقنعة الزائفة.

ليست هناك تعليقات: